فضائل شهر الله المحرم وأحكامه

قال تعالى :[ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ [[آل عمران/190] وقال تعالى : ] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [[يونس/6] وقال تعالى : ]يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ[[النور/44] .
في هذه الآيات الكريمات يخبر الله تعالى عن الآيات الكونية الدالة على كمال علمه وقدرته ، وتمام حكمته ورحمته ، ومن ذلك اختلاف الليل والنهار , فالله تعالى جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ، ومراحل للآجال ، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر ، لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات ، وتنشيطهم على الطاعات ، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار ، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل ، قال تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً[[الفرقان/62] .
وينبغي للمؤمن أن يأخذ العبرة من مرور الليالي والأيام ، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد ، ويطويان الأعمار ، ويشيِّبان الصغار ، ويفنيان الكبار ، وكل يوم يمر بالإنسان فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة .
فالسعيد – والله – من حاسب نفسه ، وتفكر في انقضاء عمره ، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه ، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته ، وعَظُمَ فواته ، واشتدت حسراته ، نعوذ بالله من التفريط والتسويف .
ونحن في هذه الأيام نودِّع عاماً ماضياً شهيداً ، ونستقبل عاماً مقبلاً جديداً ، فعلينا أن نحاسب أنفسنا ، فمن كان مفرطاً في شيء من الواجبات فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات ، وإن كان ظالماً لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه ، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل ، ومَنْ منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات إلى الممات .
فضل شهر الله المحرم
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضلُ الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم ، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل ) وفي رواية: ( الصلاة في جوف الليل ) أخرجه مسلم .
الحديث دليل على فضل صيام شهر الله المحرم ، وأن صيامه يلي فضل شهر رمضان في الأفضلية ، وفضل الصيام فيه جاء من فضل أوقاته وتعظيم الأجر فيه ، لأن الصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى .
وشهر الله المحرم هو الشهر الذي تبدأ به السنة الهجرية ، كما تمَّ الاتفاق على ذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، وهو أحد الأشهر الحرم التي ذكر الله في كتابه ، فقال تعالى : ] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [[التوبة/36] وعن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( …السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاثة متوالية ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبان ) متفق عليه .
وقد أضاف الله تعالى هذا الشهر إليه تشريفاً وتعظيماً ، لأن الله تبارك وتعالى لا يضيف من الأشياء إليه إلا خواصُها كبيت الله ، ورسول الله ، ونحو ذلك ، وسمي محرماً تأكيداً لتحريمه ، لأن العرب كانت تتقلب فيه ، فتحله عاماً وتحرمه عاماً .
وقد دل الحديث على أن أفضل ما يتطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم ، والظاهر أن هذا محمول على أنه أفضل شهر يُتطوع بصيامه بعد رمضان ، أما التطوع بصيام بعض الأيام منه فقد يكون بعض الأيام أفضل من أيامه كيوم عرفة ، وستة أيام من شوال .
وظاهر الحديث فضل صيام شهر المحرم كاملاً ، وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر المحرم لا صومه كله ، لقول عائشة رضي الله عنها : (…ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ) أخرجه مسلم .
يوم عاشوراء في التاريخ
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ( كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه ، فلما فُرِضَ رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه ) أخرجه البخاري ومسلم .
الحديث دليل على أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون يوم عاشوراء ، وأنه يوم مشهور عندهم ، وأنهم كانوا يصومونه ، وكان النبي يصومه – أيضاً – ، واستمر على صيامه قبل قال القرطبي : ( حديث عائشة يدل على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر ، ولعلهم كانوا يستندون في صومه إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل – صلوات الله وسلامه عليهما – فإنهم كانوا ينتسبون إليهما ، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما …) (3).
والذي يستفاد من مجموع الأدلة أن صوم عاشوراء كان واجباً في أول الأمر بعد هجرة النبي إلى المدينة ، على الصحيح من قولي أهل العلم (4) ، لثبوت الأمر بصومه ، وعن سلمة بن الأكوع قال : ( أمر النبي رجلاً من أسلم الهجرة ، ولم يأمر الناس بصيامه ، وهذا يدل على قدسية هذا اليوم وعظيم منـزلته عند العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي ، ولهذا كانوا يسترون فيه الكعبة ، كما في حديث عائشة – أيضاً – رضي الله عنها ، قالت : ( كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان ، وكان يوماً تُسْتَرُ فيه الكعبة … الحديث ) أخرجه البخاري (2) ، أن أذن في الناس : أن من كان أكل فليصم
بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم ، فإن اليوم يوم عاشوراء ) متفق عليه (1) .
ولما فرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة نُسِخَ وجوبُ صومِ عاشوراء ، وبقي الاستحباب ، ولم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة ، وهي السنة الثانية من الهجرة حيث فرض عاشوراء في أولها ، ثم فرض رمضان بعد منتصفها ، ثم عزم النبي في آخر عمره – في السنة العاشرة – على ألا يصومه مفرداً بل يصوم قبله اليوم التاسع ، كما سيأتي – إن شاء الله – وهي صورة من صور مخالفة أهل الكتاب في صفة صيامهم .
الترغيب في صيام يوم عاشوراء
عن أبي قتادة أن رسول الله سئل عن صوم يوم عاشوراء ، فقال : ( يكفر السنة الماضية ) وفي رواية : ( … وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) أخرجه مسلم(1) .
الحديث دليل على فضل صيام يوم عاشوراء ، وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم ، على القول الراجح والمشهور عند أهل العم .
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء ، فقال : ( ما علمت أن رسول الله صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ، ولا شهراً إلا هذا الشهر ، يعني رمضان ) متفق عليه(2) .
فينبغي للمسلم أن يصوم هذا اليوم ، ويحث أهله وأولاده على صيامه ، اغتناماً لفضله ، وتأسياً بالنبي .
وعن جابر بن سمرة قال : ( كان رسول الله يأمر بصيام يوم عاشوراء ، ويحثنا عليه ، ويتعاهدنا عليه … الحديث ) أخرجه مسلم(3) .
وأعلم أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للذنوب ، كالوضوء وصيام رمضان وصيام يوم عرفة ، وعاشوراء وغيرها ، أن المراد به الصغائر ، لأن هذه العبادات العظيمة ، وهي الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إذا كانت لا تُكَفَّر بها الكبائر – كما ثبت في السنة – ، فكيف بما دونها من الأعمال ؟
ولهذا يرى جمهور العلماء أن الكبائر كالربا والزنا والسحر وغيرها ، لا تكفِّرها الأعمال الصالحة ، بل لا بد لها من توبة أو إقامة الحد فيما يتعلق به حد .
فعلى المسلم أن يباد بالتوبة في هذه الأيام الفاضلة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها ، لعل الله تعالى أن يتوب عليه ويغفر ذنبه ، ويقبل طاعته ، لأن التوبة في الأزمنة الفاضلة لها شأن عظيم ، فإن الغالب إقبال النفوس على الطاعات ، ورغبتها في الخير ، فيحصل الاعتراف الذنب ، والندم على ما مضى ، لا سيما ونحن في بداية عام جديد ، وإلا فالتوبة واجبة في جميع ال أزمان .
الحكمة من صيام يوم عاشوراء
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قدم رسول الله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسئلوا عن ذلك ، فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ، فنحن نصومه تعظيماً له ، فقال رسول الله : ( نحن أولى بموسى منكم ، فأمر بصيامه) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( فصامه موسى شكراً ، فنحن نصومه … ) .
في الحديث بيانٌ للحكمة العظيمة من مشروعية صيام يوم عاشوراء ، وهي تعظيم هذا اليوم وشكرُ الله تعالى على نجاة موسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل ، وإغراق فرعون وقومه ، ولهذا صامه موسى عليه السلام شكراً لله تعالى ، وصامته اليهود ، وأمة محمد أحق بأن تقتدي بموسى من اليهود ، فإذا صامه موسى شكراً لله تعالى ، فنحن نصومه كذلك ، ولهذا قال النبي : ( نحن أولى بموسى منكم ) وفي رواية : ( فأنا أحق بموسى منكم ) أي : نحن أثبت وأقرب لمتابعة موسى عليه السلام منكم ، فإنا موافقون له في أصول الدين ، ومصدقون لكتابه ، وأنتم مخالفون لهما بالتغيير والتحريف ، والرسول أطوع وأتبع للحق منهم ، فلذا صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه ، وتأكيداً لذلك .
وعن أبي موسى قال : كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود ، وتتخذه عيداً ، فقال رسول الله : ( صوموا أنتم ) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ، ويُلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ، فقال رسول الله : ( فصوموا أنتم )(2) .
وظاهر هذا أن من حكمة صومه مخالفة اليهود ، وذلك بعدم اتخاذه عيداً ، والاقتصار على صومه ، لأن يوم العيد لا يصام ، وهذا أوجه من مخالفة اليهود في
يوم عاشوراء ، وسيأتي – إن شاء الله – وجه آخر من المخالفة ، وهو صوم التاسع قبله
Recommended Posts

سنن الترمذي – 6 – المناقب والفهارس
June 08, 2018

سنن الترمذي – 5 – فضائل القران، الدعوات
June 08, 2018

سنن الترمذي – 4 – الولاء والهبة، الأمثال
June 08, 2018